-->
مساحة إعلانية

الخميس، 6 نوفمبر 2025

أسامة حراكي يكتب: العلاقة بين البلاغة والنقد في الفكر العربي القديم




لا يخلو البحث في البلاغة والنقد من غموض ومشكلة معرفية تتجلى في الخلط بينهما، ورأى المعاصرون الأسباب التي دفعت نقدنا القديم باتجاه البلاغة، كل من زاويته الخاصة، فلقد رأى المعتزلة في الشعر العربي مصدراً للمعرفة، وفي البلاغة عنصراً مهماً في الإقناع، فاندفعوا نحو استبانة المقاييس البلاغية والنقدية.

ووجد دارسو مطلع عصر النهضة في كتاب "التلخيص" مرجعاً يجمع ويلخص لهم نتاجات الجهود المبذولة دون أن يتنبهوا إلى خطورة منهجه التعليمي لا الإبداعي، والفارق كبير بين المنهجين؛ إذ يقدم المنهج التعليمي البلاغة قوالب جافة وعقيمة، ويراها المنهج الإبداعي على أنها تحويل القيم الفنية التي يكتنزها النص إلى مفاهيم جمالية.
 
فميز الدارسون بين البلاغة والنقد بناء على اختلاف منهجيهما في تناول النص وبقطع النظر عن الأجود بينهما أو الأسوأ، لكن إذا عدنا إلى المراحل المختلفة لتطور البلاغة فماذا نجد؟

استأثرت البلاغة بنصيب وافر من مجهود المهتمين بالتراث العربي على مر العصور، وقد شملت هذه المؤلفات معظم جوانب البلاغة، وأسهمت إسهاماً كبيراً في تعميق معرفتنا بها وأعلامها، والكشف عن اتجاهاتها الرئيسة، والاهتمام بإبراز مواضعها ودراسة مصطلحاتها.

انطلق تصور القدامى لمفهوم النقد من الدلالة اللغوية لمادة "نقد" التي تدور حول محورين: يتصل الأول بنقد الدراهم لتمييز جيدها من رديئها، أما الثاني فيتصل بذم الآخرين وعيبهم، والمعنيان قريبان، لكن المعنى الأول أوسع دائرة من الثاني لما يشتمل عليه من معنى فحص الجيد من الرديء؛ أما الثاني فيقتصر على معنى الذم وإظهار العيوب، ثم نقلت دلالة المعنى الأول من مجالها السابق "نقد الدراهم" إلى نقد الأساليب وذلك لقابلية التمييز بين الأشياء التي تتضمنها كلمة النقد في أصلها اللغوي، وبقي للمعنى الثاني ظل مؤثر، تحكم في جوانب غير قليلة من النقد، لا سيما في الكشف عن العيوب التي وردت في شعر مجموعة من الشعراء.

دخلت كلمة نقد في الاستعمال الأدبي في القرن الثالث الهجري من دون أن نجد في الدراسات أي بذور جنينية للقسمة المعروفة ما بين البلاغة والنقد، وبما أن الاهتمام بالشعر كان يستحوذ على الذوق العربي آنذاك، فقد كان النقد المروي لنا نقداً مبنياً على الذوق الفطري، همه محصور في المفاضلة بين الشعراء، وفي تمييز جيد الشعر من رديئه، كما في قول بعضهم: رآني البحتري الشاعر العباسي ومعي دفتر شعر فقال: ما هذا؟ فقلت: شعر الشنفرى "الشاعر الجاهلي" فقال: وإلى أين تمضي؟ فقلت: إلى أبي العباس المبرد " أحد العلماء الجهابذة في علوم البلاغة والنحو والنقد" أقرأه عليه، فقال: قد رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة، فما رأيته ناقداً للشعر ولا مميزاً للألفاظ، ورأيته يستجيد شيئاً وينشده، وما هو بأفضل الشعر، فقلت له: أما نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى.

فالنقد في القرن الثالث الهجري إذاً لم يكن مبنياً على قواعد فنية، ولا على ذوق منظم ناضج، وكل ما نجده عند الدارسين هو محاولة جادة للتعرف إلى نتاج ذلك العصر بقدر ما تيسر لهم من ثقافة وظروف مواتية، فهذا ابن سلام في طبقاته التي يعدها الدارسون أقدم وثيقة في تاريخ النقد لا نكاد نعثر فيها على ذلك المصطلح مع أنه هو نفسه كان قد مارس النقد ممارسة عملية وفق تصوره، وتصور علماء عصره لمفهوم النقد، لكنهم كانوا يعبرون عن هذه الممارسة بعبارة "العلم بالشعر".

ثم جاء القرن الرابع الهجري ليعالج بقليل من النضج مسألة طرحها الجاحظ، وهي مسألة اللفظ والمعنى حين أعلن: "إن المعاني مطروحة في الطريق، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك" وقد قسمت هذه المسألة الدارسين إلى تيارين: واحد معنوي وآخر لفظي، يعني هذا أن هذا القرن انبرى لمعالجة أكثر المسائل النقدية جدية بقطع النظر عن مستوى المعالجة.

ويبدو أن أقدم محاولة اتخذت هذا المصطلح عنواناً لهذه الممارسة العملية للنقد ووصلت إلينا كانت على يدي قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر" والذي صرح فيه بأن النقد تمييز جيد الشعر من رديئه، من دون أن يقصد بذلك ما يعنيه مصطلح النقد في عصرنا الحاضر، ومضى العلماء بعده باتخاذ النقد في عنوان مؤلفاتهم، كما في كتاب القيرواني "العمدة في صناعة الشعر ونقده".
 
إن النقد التطبيقي الذي وصل إلينا من خلال العصور العديدة، يكشف لنا عن طبيعة تصورهم لمفهوم النقد، وهو مفهوم وإن كان يختلف من بيئة إلى أخرى يكاد يلتقي عند مفهوم الدلالة اللغوية لمادة نقد، سواء كان ذلك في نقد الدراهم لتمييز جيدها من رديئها، أم في عيب الآخرين، مع ملاحظة أن المعنى الثاني كان أكثر شيوعاً وسيطرة على أذهان النقاد، لا سيما في بيئة النقاد المحافظين الذين تعصبوا للقديم، كما ظل هذا المفهوم "وهو عيب الآخرين" يتمثل في بعض الأعمال التي تعصبت على مذهب أبي تمام في الشعر، وشخصية المتنبي وشعره.

وتبين الجولة في القرن الرابع الهجري، أن الدارسين في هذا القرن لم تتوزعهم التسميتان: النقد والبلاغة، وإن تنازعتهما نزعة البحث عن القيم الفنية لاستخلاص المفاهيم الجمالية من جهة، ونزعة التقعيد والتعليم من جهة ثانية، ولا نجد في كل ذلك ما يدل على أنهم في ما عالجوه كانوا يقصدون معالجة أمرين مختلفين، لكنهم كانوا يحسبون أنفسهم يعالجون أمراً واحداً من وجهات نظر مختلفة.

ويأتي القرن الخامس الهجري، فنجد أن دراسة النـتاج الإبداعي قد بلغت من النضج مبلغاً مرموقاً على يد علمين كبيرين هما: ابن سنان الخفاجي في كتابه "سر الفصاحة" وعبد القاهر الجرجاني في كتابيه: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".

ومما يلفت الانتباه أن الأول قد سمى العمل الإبداعي "فصاحة" وسماه الثاني "بلاغة" وإذا اتضح أن الرجلين قد سميا دراسته "سراً، وأسراراً ودلائل" وفي هذه التسميات من العلمية ما فيها، خصوصاً بما تتضمن هذه الكلمات من اتجاه وصفي تقريري، حيث يفسر الجرجاني الكشف عن الأسرار بأن تضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا


وأهم ما يجب أن نسجله هنا، هو أن هذا القرن "الخامس الهجري" قد سمى دراسة النتاج الأدبي "سر الفصاحة" و"سر البلاغة" وإذا سجلنا على الخفاجي نزعته التعليمية في جوانب من سر الفصاحة، وللجرجاني نزعته التقريرية الوصفية في معظم ما كتبه، فهذا لا يعني أنهما قاما بعملين مختلفين، بل توجها إلى المسألة نفسها من منظارين مختلفين، ولم يكن يخطر ببالهما أن هناك نقداً متميزاً عن البلاغة، فالعمل الإبداعي بلاغة، ودراسته هي للكشف عن سرها أو أسرارها.

أما في القرنين السادس والسابع الهجريين، فلم يخطر ببال أحد من النقاد أن دراسة النتاج الأدبي قد تحتاج إلى مستويين مختلفين من التناول "نقد أو بلاغة" رغم أن النزعة التعليمية وتقعيد القواعد قد اشتدا في هذين القرنين على حساب النزعة التقريرية الوصفية.   

في الختام ما نريد الوصول إليه هو أن البلاغة العربية هي النقد عند القدماء، والدراسات الأدبية القديمة لم تميز بينهما، ليس بسبب النقص في قدرة تلك المرحلة على التمييز، بل بسبب الوظيفة الموحدة لهما، فهما علمان متلازمان لا ينفكَ أحدهما عن الآخر، وهما توأمان متلاحمان، ووجهان لحقيقة واحدة، والعلاقة بينهما هي علاقة ترادف.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا:

الاكتر شيوعا